ما بعد التقرير الأممي
جاء الكشف عن نتائج التحقيق الأممي في جريمة الغوطة الكيماوية، في غير صالح روسيا والنظام السوري … من سوء طالع هذين الفريقين، أن توقيت مناقشة التقرير في مجلس الأمن، جاء متزامناً مع احتدام الجدل الروسي الأمريكي حول تفسير اتفاق لافروف-كيري، وما إذا كان الاتفاق المذكور يسمح تلقائياً بالذهاب إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ويعطي تفويضاً بالاستخدام المباشرة للقوة، أم أنه يملي على موقعيه، العودة إلى مجلس الأمن من جديد، للنظر في القرارات والخطوات الواجب اتخاذها، في حال صدر عن النظام السوري ما يوحي بالمماطلة وعدم الالتزام، أو في حال تكرر استخدام الكيماوي في الحرب الأهلية المحتدمة في سوريا.
التقرير ألمح ولم يصرح إلى مسؤولية النظام عن استخدام الكيماوي في الغوطة، حتى الآن روسيا والنظام لا يوافقان على هذا الاستنتاج، بل وتعتبران “القفز” إليه حتى قبل إتمام قراءة التقرير بالكامل من قبل ممثلي بعض الدول الكبرى، إنما ينطوي على اتهام سياسي، ويخفي نوايا وأجندات مبيّتة، والأرجح أن الجدل حول هذه النقطة لن يتوقف حتى إشعار آخر.
لكن مع ذلك، فإن نتائج التحقيق في جريمة الغوطة، وضعت الروس في خانة أصعب وأضيق، وسيجدون أنفسهم مضطرين للتساوق مع منطق “الرد القوي والملزم”، لكنهم سيتحاشون الخوض في حكاية الفصل السابع ما أمكنهم إلى ذلك سبيلاً، وربما يستعيضون عن ذلك بتقديم تعهدات وضمانات من موقع “الكفيل الرسمي” للنظام، والمتعهد الذي سيأخذ على عاتقه أمر إنفاذ الاتفاق، وربما تحت طائلة الفصل السابع إن لزم الأمر، ولكن بموجب قرار آخر يصدر عن مجلس الأمن، حين تُستكمل البيانات والبيّنات على تورط النظام في “المماطلة” و”التسويف”، أو لجوئه لاستخدام هذا السلاح مستقبلاً.
على أن الأمر لن يقف عند هذا الحد، فالتقرير الأممي سيشجع دعاة “عدم الإفلات من العقاب” للتحرك على نطاق واسع، بصرف النظر عن طبيعة نواياها وأجنداتهم، ما ظهر منها وما خفي، وسنرى مطالبات وقضايا مرفوعة من أجل جلب المتورطين باستخدام هذا السلاح إلى “المحكمة الدولية”، وقد يفضي ذلك كله إلى إضافة المزيد من التعقيدات على طريق الحل السياسي و”جنيف 2”.
لكن رهانات المتفائلين بفرص الحل السياسي والساعين لـ “جنيف 2”، ما زالت معقودة على الإرادة الروسية – الأمريكية المشتركة في دفع الأزمة السورية على هذه السكة … هؤلاء يعتقدون بأن “اتفاق الكيماوي” ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، وأن التفاهمات الروسية الأمريكية أوسع وأبعد من حدود السلاح السوري الكيميائي … وهؤلاء يرون أن التقدم على مسار الحل السياسي بات متطلباً ضرورياً لضمان التقدم على مسار تنفيذ الاتفاق الكيماوي وتسريعه… وهؤلاء يستشهدون بالحماس الأمريكي – الإسرائيلي الظاهر لهذا الاتفاق، الذي حقق للحليفتين الاستراتيجيتين بالدبلوماسية، ما لا تستطيع أي ضربة عسكرية أن تحقق مثله أو نصفه.
سنشهد مخاضاً حواريا صعباً حول “ما بعد انتهاء التحقيق في جريمة الغوطة”، لكن الأنظار ستظل مشدودة إلى تطبيقات اتفاق جنيف الكيماوي، ومن المرجح أن تستطيع واشنطن تحت ضغط التقرير الأممي، أن تسرّع البرنامج الزمني لاتفاق نزع الكيماوي السوري، وأن تفرض قيوداً أعلى في عمليات الرقابة والتفتيش والتحقق وأن تنتزع من موسكو وعوداً وعهوداً بأنها ستصطف إلى جانبها في حال وقع أي إخلال أو مماطلة عند التنفيذ.
في المقابل، وجنباً إلى جنب مع مساعي الراعين الدوليين، ستواصل قوى المحور العربي – التركي المعروف، والمدعوم فرنسياً بصورة نشطة، محاولاتها “عدم اختزال الأزمة السورية بالكيماوي”، وزيادة وتائر تسليح المعارضة، وتطوير نوعية وكمية الأسلحة المقدمة لفصائلها المسلحة، وربما ننتقل إلى احتكاكات مباشرة كتلك التي وقعت بالأمس على الحدود التركية – السورية، عندما أقدم سلاح الجو التركي على “أخذ الثأر” من سوريا، فأسقط طائرة مروحية، دفعة على حساب مفتوح، منذ الطائرة التركية التي سقطت في المياه الإقليمية السورية، مروراً بكل بنود هذا الحساب وأبوابه.
وما لم تتطور إرادة الروس والأمريكيين المشتركة، إلى الحد الذي يسمح لكل فريق أن يمارس ضغوطاً كافية على حلفائه الإقليميين والمحليين، فليس من المتوقع لنيران الأزمة السورية أن يخف أوارها … وليس مستبعداً أن يكون مؤتمر “جنيف 2” هو أول ضحايا هذا التصعيد، ولكنه قد لا يكون آخرهم، إذ ربما يسقط “اتفاق جنيف الكيماوي” تحت طرقات التصعيد المتبادل، ما لم تبادر موسكو وواشنطن إلى قطع الطريق على بقية اللاعبين والأجندات.