من الجاني الحقيقي؟!
لم يكن النواب ليصوّتوا بهذه النسبة غير المسبوقة (134 من 136 نائباً حضروا الجلسة)، لو لم تكن “الصورة” حاسمة أمام أعينهم؛ إمّا الإبقاء على النائب طلال الشريف بعد سابقة إطلاق الرصاص من “الكلاشينكوف”، أو حلّ المجلس بعد أن وصلت صورته إلى ما بعد الحضيض!
بالضرورة، ما حدث يحمل رسالة مهمة جداً للمواطنين جميعاً، بأنّ مبدأ “سيادة القانون” يعلو على الجميع، بمن في ذلك النواب والمسؤولون؛ وأنّه لا تهاون مع هذه “الانتهاكات” العلنية. وهي رسالة لو طُبّقت سابقاً في الحياة العامة؛ أي الجامعات والعنف الاجتماعي والفساد والتجاوزات المختلفة، وحُكم الناس بالمسطرة القانونية الموحدة، لما وجدنا أنفسنا اليوم أمام أزمة “هيبة الدولة” وانهيار المركز الأخلاقي لها وقيمتها في أعين المواطنين، وصعود فجوة الثقة والمصداقية بين الشارع والحكومات المتعاقبة، كما هو واضح في استطلاعات الرأي العام.
لكن بالعودة إلى موضوع مجلس النواب، أليس من المحزن أن نرى السلطة التشريعية، وما تقوم به من مهمة سامية مؤثرة جداً على حياة المواطنين ومصالحهم، بهذه الصورة البائسة والمتردّية، حتى إنّ النواب المحترمين أنفسهم باتوا يخجلون أمام أبنائهم وأصدقائهم من وجودهم في مثل هذه المجالس؟!
هل من الإنصاف للوطن أن نرى تحت القبة من لا يحترمون قانوناً، ولا يعرفون معنى للتشريع والرقابة، وهم أول من يتطاول على القانون والدولة والمواطنة، ثم يكونون من يمثّلون هذه المؤسسة التشريعية؟! هذا بينما تجلس أسماء مثل: عبداللطيف عربيات، وإسحاق الفرحان، ويعقوب زيادين، وخالد رمضان، وصالح ارشيدات، وسعيد ذياب، وممدوح العبادي، وعبدالرزاق طبيشات، وعبلة أبو علبة، وآمنة الزعبي، وغيرهم، من مئات الأسماء من السياسيين والمثقفين والحزبيين، ممن هم قريبون من خطّ الدولة أو من معارضيها، والذين كان يمكن أن يترشحوا للانتخابات وينجحوا ويشكّلوا “الصورة” المطلوبة لمجلس النواب، بوصفه قلعة القانون وحمايته وهيبته، ويقدّموا نموذجاً واقعياً للشارع في احترام القانون وأهميته وحرمته!
الجاني الحقيقي ليس من حمل “الكلاشينكوف” أو قبله المسدّس، أو حتى اعتدى على زملائه، ولعب دور البلطجي تحت القبة وفي الشارع ضد المعارضة. بل الجاني هو من فتح له الطريق للوصول إلى هذه المرحلة، حتى لم يعد يحترم قانوناً، ولا يعترف بأخلاق، بل وأصبح “قدوة” للنواب الجدد الذين وجدوا مثل هذا السلوك هو الذي يأتي بنتائج داخل القبة وخارجها، فلماذا نستغرب هذا المشهد؛ هل كانت المدخلات ستؤدي إلى مخرجات مختلفة؟!
الجاني الحقيقي هو من وقف ضد الإصلاح السياسي؛ فأجهض مخرجات لجنة الحوار الوطني، وفي مقدمتها قانون الانتخاب، ووقف ضد تطوير القانون للبدء بإزالة آثار الصوت الواحد والدوائر الصغيرة التي جزّأت المجزّأ وقسّمت المقسّم، وعزّزت الهويات الفرعية، وأوصلت ممثلين لحارات وأزقّة إلى المجلس، بدلاً من ممثلين للمحافظات والوطن والتيارات السياسية الوطنية المعروفة!
كنت أتمنّى أن يرى من أوصلونا إلى هذا الدرك صنيع أيديهم، وأن يراجعوا أنفسهم، ليكتشفوا حجم الجريمة التي ارتكبوها بحق الوطن، فأودت بصورة المؤسسات والجامعات والسلم الأهلي، وحتى بقيمة امتحان مثل الثانوية العامة، وبمفهوم العدالة، والمساواة أمام القانون، وقلبت المعايير. بل أوصلتنا إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير؛ انتكاسة أخلاقية غير مسبوقة في علاقة المواطن بالدولة، وبقيم موظف الدولة، وعلاقة المواطنين ببعضهم بعضا. وكل ذلك هو النتيجة الطبيعة عندما تنهار قيمة القانون وحرمته في عقر بيته (السلطة التشريعية)، وفي الشارع، وفي حاضنته (الجامعات)!
لن يغيّر فصل نائب وتجميد آخر حال المجلس، فالحلّ هو الحل، عبر بوابة المحكمة الدستورية. ثم سن قانون انتخاب توافقي حضاري، يؤدي إلى مشاركة القوى السياسية والشخصيات العامة. وإلاّ فإنّ مسلسل الانهيار مستمر!