ضجر لذيذ!
لم يعد الضجر لذيذا بما يكفي! صار لزاما احتساب الساعات والنظر الى أفق مغبر لا يعترف بقيمة الوقت: انها اشكالية الزمن بالمعنى المجرد والوقت المهدور بدقائقه وساعاته الحائرة التي تدور عقاربها ببلاهة حتى الأزل! يبدأ النهار بعد ان ينتهي الصباح بفنجان قهوة وصحيفة فقدت صلاحيتها. سرعان ما يستولي التلفاز على المشهد لتبدأ متوالية الاخبار العاجلة! تمر الساعات بطيئة بلا لذة. ضجر هو الجحيم بعينه.
كان هناك زمن للضجر اللذيذ. فاتنا ذلك الزمان. الوقت يداهمنا ونحن في سباق خائب ضده. كان هناك زمن يحلو فيه الاسراف في هدر الوقت: انتظار الباص ومراقبة الناس، الوقوف في صف طويل كي تشتري تذكرة لمسرحية غنائية، الجلوس في متحف والتحديق في لوحة لفنان، قراءة صحيفة في مقهى يعج بالناس، طلب قائمة الطعام في مطعم فاخر والتذمر من تأخر النادل، المشي في حديقة عامة دون وجهة ما، التطلع في الساعة في انتظار صديق او صديقة، والتحديق في معالم مدينة من نافذة طائرة على وشك الهبوط. كان الوقت حليفا لنا،لا بل كان متواطئا معنا. كان للضجر قوانينه، وكان الضجر ملاذا للعاشق.
ياتي الضجر اللذيذ حين تستدعيه. في مقهى عام او حانة يحلو لك ان تراقب المشاة. كل يحركه أرق ما. هكذا تبدو الحياة من تلك النافذة. وعندما يهطل المطر او تهب العاصفة تختلط الاوراق. هناك من يلوذ بشجرة أو مدخل مبنى او تحت مظلة لتتوقف عندها عجلة الرتابة! شيء ما يحدث في الخارج! وانا مكتف بمقعدي وشرابي وصحيفتي ومظلتي التي تخشى البلل.
الضجر اللذيذ يعني ان لا تفكر الا باللحظة التي تعيشها، وان تترك لنفسك العنان لتبحر في المجهول وان تترك للفكرة الوليدة مكانا لتنبثق فيه وتتكون كوردة برية. حيرة وألم وضجر هو المزيج الذي ابحث عنه لاستيلاد الفكرة.
الضجر اللذيذ بات صعبا في هذا الزمان. تداهمنا الافكار الداكنة في اللحظة التي نستيقظ فيها. بين الوعي والوعي المصطنع ساعات ضائعة وضجر قاتل. الافق مغبر والسماء لا تشير الى ساعة ما. كأن النهار والليل تمردا على سيرورة أزلية، وتركا إرثا خليطا من وقت مهدور وسماء زرقاء وشمس ضلت طريقها.
كيف لو توقفت عجلة الفصول عن الدوران؟ كيف للضجر اللذيذ ان يستدعى من رحم الزمن؟ لكنه الآن حصل. عقارب الساعة تركض بلا وجهة وانا هائم أبحث عن مشهد وعن فكرة!.