مصــر على «كف» عفريت!
فيما اختفى صوت “العقل” تماماً لدى كافة الأطراف في مصر، انفتح المجال واسعاً لموجة “الجنون” التي اجتاحت الميادين والمساجد، وخلفت وراءها مئات القتلة وآلاف الجرحى، وكأن مصر قد عادت الى عصر “الاحتلال” حيث لا حرمة لأي شيء، ولا كرامة لمواطن، ولا احساس من قبل بعض الذين ركبوا “الانقلاب” بفداحة الخطر، وعمق الجراحات، ومشاهد القتل التي لم تشهدها مصر حتى في حروبها مع إسرائيل.
ما يجري في مصر الآن اسوأ مما قرأناه عن عصر “الانقلابات” العربية في الخمسينيات والستينيات، وأسوأ من بدايات “الجزأرة” التي راح ضحيتها في “العشرية الدموية” مئات الآلاف من الجزائريين، فهذه ليست مصر التي نعرفها، وهؤلاء “العسكر” ليسوا أولئك الذين رأيناهم في ميدان التحرير في ثورة يناير، وهذا الإعلام “المجنون” الذي يحرض على القتل لا يمثل الإعلام المصري ولا ضمير الناس، وهذه “النخب” التي اصطفت في 30 حزيران للمطالبة برحيل مرسي استقالت من “وطنيتها” لدرجة انها لم تجرؤ على ادانة “القتل” الذي طال المدنيين، وكأن الإخوان وحلفاءهم ليسوا مصريين ولا يستحقون كلمة عزاء أو وقفة استنكار أو موقف يقال فيها للقاتل ان يتوقف.. لأن هذا الدم الذي يسيل دم مصري، ولأن هؤلاء الذين يقتلون في الميادين والمساجد جزء من الشعب المصري، ولأن ما يفعله “الانقلابيون” بمصر وثورتها يتعارض مع أبسط القواعد والمواثيق الدينية والانسانية.
مصر الآن على “كف عفريت”، والمجازر التي ترتكب فيها كل يوم تعبر عن “حالة” متعمدة لتدمير هذا البلد واخراجه من موقعه ومكانته ليتحول لدولة فاشلة، أو صومال أخرى، ويبدو أن الآفاق السياسية لأية “مصالحة” انسدت تماماً، فالانقلابيون قرروا ان يخوضوا الصراع حتى النهاية، والإخوان المسلمون أصبحوا برأي هؤلاء جماعة ارهابية، والثورة تحولت لديهم الى لحظة عابرة انتهى مفعولها، والخيار الوحيد الذي يراهنون عليه هو “اخضاع” مصر وحكمها بالطوارئ وقوة السلاح.. وفيما عدا ذلك فإن أبواب الحوار كما يفهمونه مفتوحة بشرط أن يذعن الجميع لإرادة الانقلاب وان يقبلوا بعودة البلاد الى حكم الطوارئ والاحكام العرفية.
هذا الجنون له معنى واحد وهو أن مصر على شفى الهاوية، وان امام الشعب المصري فرصة واحدة للخروج من الازمة الطاحنة وهو الثورة مجدداً ضد الانقلابيين، واعادة قراءة ما حدث في الشهر الماضي بعيون اخرى بعد ما رأوه في الميادين من اقتحامات، وفي المساجد من اعتداءات، وبعد أن اصبح واضحاً لديهم ان “اخطاء مرسي” لا تساوي شيئاً مقابل اخطاء الانقلابيين، وان ما فعله مبارك في ثلاثين عاما مجرد نقطة في بحر “الظلمات” الذي غرقت فيه بمصر على مدى شهر واحد فقط.
مهما تكن “الاخطاء” التي ارتكبها الاخوان سواء في عهد مرسي أو فيما بعد الاعتصامات أو حتى في ردود افعالهم بعد مقتل المئات على يد قوات الأمن والجيش، فإن هذا الاستخدام البشع “للقوة” وهذا القتل بدم بارد، وهذا الانحياز باسم الشعب المصري ضد الشعب المصري نفسه، وهذا الانحدار اللاأخلاقي الذي وقعت فيه النخب بصمتها وتواطئها على القتل والارهاب الرسمي لا يمكن لأحد ان يبرره أو ان يقبله أو ان يدخله في حسابات ما يفترض ان تمارسه الدول المحترمة أو “الثوار” المعتبرون أو “النخب” المزيفة التي ترفع شعار الحرية والديمقراطية.
حقاً لقد فاجأنا هؤلاء، لا في الكذب والتزييف فقط، وانما في “شهوة” ممارسة القتل, وازدراء الشعب، والاصرار على التمسك بالسلطة مهما كان الثمن، كما فاجأونا بما يمتلكونه من رصيد “جنون” لا ينفذ ومن استهتار بالضمير الانساني والمواقف الدولية، وكأنهم يتصرفون ضد “غزاة” أو ارهابيين حقاً، لا ضد مواطنين احتجوا على الانقلاب على ارادتهم وطالبوا باسترداد شرعيتهم والتزموا بالسلمية على مدى نحو شهرين من الاعتصام.
ندرك أن الثمن الذي سيدفعه المصريون سيكون باهظاً، وان “عداد” القتلى والجرحى والمنكوبين لن يتوقف، وان محاولات “القطعنة” واشاعة أجواء الكراهية التي امتهنها اعلام فقد بصيرته ستستمر، لكن ندرك ايضاً ان صولة الباطل لن تطول.. وان الشعب المصري سيصحو ويتوحد ويستعيد عافيته من جديد، فكما فعل في ثورة يناير سيفعل في جولة قادمة ضد هؤلاء الذين أوهموه بأنهم جاءوا لكي ينقذوه من “الاستبداد” وسوء الحكم …
يبقى أن الممر “الآمن” الوحيد أمام المصريين هو خروج الجيش من دائرة “السياسة” والتوافق على تشكيل مجلس انتقالي يمهد لخريطة طريق تأخذ مصر نحو مصالحات حقيقية ومرحلة جديدة تستعيد من خلالها “توازنها” وتسترد ثورتها وتطرد عنها شبح “الغرق” في الدم.