استحضار أدوار القدس في تاريخنا
من الواضح أن وطننا الأردن, يعيش هذه الأيام حالة متقدمة من حالات المقاومة, في مواجهة الإغراءات التي يتعرض
لها والتي يرفضها رفضاً مطلقاً,بصورة ولا أروع, من صور مقاومة الإغراء للتنازل عن الموقف, ولتغير القناعات, وهي
المقاومة التي عبر عنها جلالة الملك عبداالله الثاني ابن الحسين بوضوح عندما قال « أنه لوعرض علينا أحدهم مئة
مليار مقابل تغير موقفنا فسنقول له مع السلامة» آخذين بعين الإعتبار أن مقاومة الإغراء أصعب وأشد على النفس
من مقاومة المحن, كما أن امتحان النعمة أشد من امتحان النقمة, وفي الحديث النبوي « حفت الجنة بالمكاره وحفت
النار بالشهوات», فما بالك وقد اجتمعت المكاره كلها علينا,مكاره الجنة الممثلة بالاغراءات التي تعرض علينا, ومكاره
النار الممثلة بالتهديدات التي يتم التلويح بها في وجوهنا, ففي الوقت الذي يتعرض فيه بلدنا إلى محنة المغريات, فإنه يتعرض إلى سيل
من التهديدات, ابتداءً من الحصار الاقتصادي الشديد المضروب علينا, لابتزازنا وتركيعنا, من أجل تغير مواقفنا وبخاصة من قضية القدس,
وصولاً إلى محاولة شق صفنا ولُحمتنا الوطنية, عبر إطلاق سيول من الإشاعات المتلاحقة وصولاً إلى استهدافنا بعمليات إرهابية تقف لها
أجهزتنا الأمنية بالمرصاد.
مواجهة كل هذه المكاره التي تحف بمسيرتنا الوطنية تفرض علينا تحصين جسدنا الوطني بكل المضادات, التي تجعله جسداً مقاوماً
بالمعنى الشامل للمقاومة, وهو المعنى الذي ناديت به في مقدمة كتابي القدس في الوعي المقاوم الصادر في بيروت عن دار المعارف
الحكمية عام 2010 والتي كتبت فيها»انطلاقاً من الإيمان المطلق، بأن المقاومة هي ابتداءً حالة وعي, تدب في أوصال الأمة بفعل خيرة الخيرة
من أبنائها الأكثر وعياً لواقعها, والأكثر معرفة بعيوب وعثرات هذا الواقع,فيهبون إلى تغيره عبر مقاومتهم التي تأخذ أشكالاً مختلفة، وفي
طليعتها المقاومة الفكرية والثقافية التي تؤسس لكل أشكال المقاومة الأخرى، وصولاً إلى المقاومة العسكرية.
إنطلاقاً من ذلك كله يأتي هذا الكتاب ليتحدث عن العلاقة بين المقاومة وبناء الوعي, وعن دور المقاومة في بناء الوعي, وأساليبها في ذلك.
وكنموذج للعلاقة بين المقاومة وبناء الوعي وأساليبها في هذا البناء اتخذ الكتاب من مدينة القدس نموذجاً, فلم ينصرف إلى التذكير
بأهمية القدس الدينية والتاريخية, أو التذكير بمعالم القدس، مساجدها وكنائسها ومدارسها ومعاهدها ومكتباتها وحاراتها وزواياها
وثكاياها ورُبطها,ولا التذكير بما تتعرض له المدينة من مؤامرات كبرى لتغيير معالمها وهويتها بغية تهويدها, فهناك مئات الكتب والأبحاث
والدراسات والمقالات التي تتحدث عن ذلك.
لكنه ذهب إلى ما هو أهم. وهو وظيفة القدس في حياة أمتنا باعتبارها المدينة التي تتوحد الأمة دائماً من أجل تحريرها, وباعتبارها المدينة
التي تشارك مشاركة أساسية في بناء وعي الأمة من خلال علمائها ومكتباتها ومعاهدها…الخ. وقبل ذلك كله من خلال مساجدها، وأولها
المسجد الأقصى، أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومنتهى الإسراء ومبتدأ المعراج وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال, وباعتبارها المدينة
التي طالما قاومت الغزاة وحرضت الأمة على المقاومة.
كل ذلك مع الدعوة لإحياء الدور التاريخي الذي قامت به القدس في تعبئة الأمة ضد الغزاة, وإطلاق شرارة المقاومة في صفوف الأمة. سعياً
لتغيير واقعها من حالة الضعف والخور والهوان, إلى حالة القوة والعزة والمنعة، كما يفرض عليها دينها الحنيف الذي تشكل القدس أحد
أهم رموزه وأماكنه المقدسة.
خلاصة القول,إن الحديث عن القدس ليس حديثاً عن تاريخها, لكنه حديث عن توظيف هذا التاريخ ودور المدينة التعبوي والتحريضي
والتوحيدي، وهذا كله من وسائل المقاومة في بناء الوعي خاصة وأن بناء الوعي التاريخي من أهم وسائل ومجالات المقاومة وعملها».
ما ذكرني بهذه المقدمة أن معركة القدس التي أطلقها قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب أعادت قضية القدس إلى صدارة المشهد
الدولي, وأعادت الدور الأردني إلى موقعه الطبيعي, كرأس رمح في الدفاع عن مقدسات الأمة الإسلامية والمسيحية في القدس, وهو دور
يتطلب منا أن نتسلح بأسلحته وأن نعتد بعدته وأول ذلك أن نستحضر أدوار القدس في تاريخنا خاصة على صعيد بناء الوعي الجمعي على
حقيقة المعركة وجوهرها, وهذا يعني أن نخوض هذه المعركة بأسلحتها الثقافية والفكرية والاقتصادية حتى نصل إلى متنها الذي نريده
بلال حسن التل