مراحل لا تقبل الحرق!!
لا نظن أن العربي المعاصر كائن استثنائي من حيث القدرة على حرق المراحل والتي تتيح له القفز برشاقة من الروضة او المدرسة الابتدائية الى اعداد أطروحة دكتوراة، وهذا ليس طعناً بامكانات أو استجابة لتصور استشراقي.
فالعربي كسائر العباد، يولد محاصراً بشروط تبدأ من البيئة ولا تنتهي عند الثقافة السائدة والاقتصاد، ورحلته الشاقة هي محاورة هذه الشروط من أجل تخطيها.
هذا ما حدث بالفعل عبر الأزمنة فان المدّ والجزر والانحسار والتمدد والنجاح والاخفاق من نتائج تلك المرحلة الصعبة، وما يدار الآن من سجال حول التمدن والديمقراطية يبدو بالنسبة لي أشبه بالخبر الذي لا مبتدأ له، لأنه منقطع عن جذور الظواهر التي نعيشها، لهذا تتطلب الاجابة عن أي سؤال متعلق بهذا التعثر المزمن في الحرية والتحديث مراجعة بضعة قرون على الاقل من التاريخ.
فالغرب الذي يطرح اليوم نموذجا ونبراساً للحريات والديمقراطيات لم يقفز من القرن السادس عشر الى القرن الحادي والعشرين، وما دفعه من أثمان باهظة لتحقيق ما وصل اليه نعرفه جيداً وان كنا أحيانا نتجاهله تهرباً من أعبائه وما يفرضه علينا من الاعتراف بأن الحرية ليست هبة والديمقراطية ليست قراراً ادارياً والشفافية ليست تطوعاً.
إن ثنائية المسبوق والملحوق في هذا السياق الحضاري جدلية بالضرورة، لكن حين يصر المسبوق ان يبقى كذلك فان المسافة تبقى ثابتة وأشبه بالقدر، ولو شئنا اختصار هذه الثنائية في تجلياتها اليومية فهي الهوة العميقة بين المنتج والمستهلك والانتاج لمجمل دينامياته ليس وقفاً على صناعة السلع، انه نمط تفكير وبالتالي له انعكاسات ثقافية وانسانية واجتماعية.
المستهلك المحترف يفقد بمرور الوقت القدرة على المبادرة، وسيتحول الى مجرد صدى، وتفرض عليه منظومة قيم ومفاهيم لم يفرزها من صلب واقعه، وهذا أحد أسباب ارتباكه والخلل الذي يصيب بوصلته.
لكن ليس معنى ذلك ان على اللاحق أن يعيد محاولات وأخطاء السابق كلها، بحيث يعود الى جدول الضرب بعد كل هذا المنجز الرياضي.
ان ما يسمى حرق المراحل هو تعبير مجازي ومبالغ فيه عن أمرين أولهما التعلم من أخطاء الآخرين واختزال الطريق وثانيهما القدرة الفائقة والاستثنائية على التطور، وكلا الأمرين ليس متاحاً للاحق والمستهلك المحترف