ذكريات حزيرانية حزينة
وكالة الناس – كتب – د . عصام الغزاوي – رغم إننا كنا صغار السن إلا إننا كنا نتقد حماساً ووطنية ، أنهينا العام الدراسي والإمتحانات النهائية وسط أجواء مشحونة ورائحة البارود تملأ الأجواء ، كنا فرحين ننتظر صواريخ القاهر والظافر والطائرات المصرية تحرق إسرائيل، كان أملنا في مصر وجيشها هكذا علمتنا الأبواق الإعلامية ، لم نعد نفكر بغير ساعة النصر وإزالة دولة إسرائيل من الوجود وليأكل السمك اليهود وننتهي منهم ، هكذا كانت الأمور ببساطة تفكيرنا الصبياني . في صبيحة الخامس من حزيران كنت مع أولاد الحارة نقضي الأيام الأولى للعطلة الصيفية (نساعد) عمال الإنشاءات العسكرية ببناء مسجد داخل معسكر العبدلي حيث كنا نسكن ونحضر لهم الماء البارد والشاي عندما شاهدنا فجأة موكب الملك الحسين رحمه الله يقف أمام المبنى وكان متجهاً كما يبدو الى مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة وهي في نفس المنطقة ليترجل رحمه الله من سيارته ويطلب من العاملين بالمسجد ترك العمل والإلتحاق بوحداتهم كون الحرب قد بدأت ، فركضنا إليه نسلم عليه ونسأله ببراءة الطفولة وحماس الشباب عما يتوجب علينا أن نعمل فقال لنا رحمه الله عليكم أن تحرسوا منازلكم وأمهاتكم وأخواتكم وغادرنا مسرعاً وإعتبرنا نحن ذلك الأمر تكليف رسمي من جلالة الملك ، ولكن بعد ساعات عدنا للتفكير لماذا نحن نحمي منازلنا وأمهاتنا وأخواتنا من اليهود ، فالجيش العربي سيقضي عليهم ، وأصبحت عقولنا الصغيرة تفكر بطريقة للحصول على السلاح والإلتحاق بالجبهة لمساعدة الجيش ،وفي تلك الأثناء أُطلقت صافرات الإنذار معلنة بدء غارة جوية على عمان وهناك أظهرنا شجاعتنا وحماسنا بإخراج أهالينا من المنازل الى ساحة مجاورة وجعلناهم يستلقون على الأرض كما تدربنا في حصص التدريب العسكري في المدرسة وإنتهت الغارة وقضينا الليل ننتظر إنبلاج صباح النصر ، في اليوم التالي شاهدنا بعض كبار السن والنسوة وأطفال يمرون من أمام بيوتنا وطلبوا منا ماء للشرب وسألناهم من أين أتوا فقالوا لنا إنهم هربوا من قراهم في الضفة الغربية بعدما دخلتها القوات الإسرائيلية وإنهم شاهدوا الكثير من أليات ودبابات الجيش العربي مدمرة على مسار طريقهم ، لم تتحمل عقولنا الصغيرة المتقدة حماسة سماع مثل هذا الكلام وإعتبرناهم من الطابور الخامس وفي مساء ذلك اليوم وصلت الى معسكر العبدلي وحدة من الكوماندوز المصريين قمنا بتقديم ما يلزم لهم من ضيافة مثل الشاي والماء والخبز وعلمنا منهم إنهم لم يستطيعوا العودة الى مصر لأن سيناء سقطت وإن الطائرات التي نقلتهم خلف خطوط العدو قد ُدمرت وأن الجيش الأردني قام بنقلهم الى مواقعه الخلفية ومنها الى هذا المكان وبقوا في المعسكر ليومين جرى نقلهم بعدها بالشاحنات الى العراق ومنها الى مصر . عندها أيقنا أننا خسرنا الحرب وإن أحلامنا ضاعت ما بين تهريج أحمد سعيد وأكاذيب صوت العرب وأن القدس الحبيبة وأقصاها قد سقطت بيد اليهود . ومضت الأيام التالية ونحن نشاهد أفراد من الجيش يبدو عليهم الإرهاق والتعب منسحبين ، والأهالي النازحين من مدنهم وقراهم يمرون مشياً على أقدامهم من أمام منازلنا ،وبعد عدة أيام عاد والدي الينا من مبنى قيادة عمليات القوات المسلحة مرهقاً متعباً مكسور الخاطر وأغلق على نفسه باب غرفته ولكني سمعت صوته وهو يجهش بالبكاء من القهر بسبب الهزيمة والنكسة وضياع القدس .
د. عصام الغزاوي.