التخلف المزدوج !! *
عقدت ذات يوم في إحدى العواصم العربية ندوة بعنوان «وعي التخلف» واشار القائمون عليها الى ان هناك ثلاثة محظورات او خطوط حمر يجب عدم الاقتراب منها. الجنس والسياسة والدين. لهذا انتهت تلك الندوة الى تقديم نموذج لتخلف الوعي وان كان عنوانها هو وعي التخلف. لان التجنب الرسمي لكل المسكوت عنه في حياتنا انتهى بنا الى فلسفة النعامة وحرمنا من نعمة النقد الذاتي الذي بدونه تتحول الاخطاء الى خطايا وتستمر متوالية التجهيل حتى الاقاصي.
والمسافة الان بين ما يهمس به او يقال في الجلسات الخاصة وبين ما يكتب او يبث تفتضح ازدواجية قد تنتهي الى الجنون، لانه ما من مريض ينكر مرضه حتى امام الطبيب الا اذا كان قد قرر الانتحار ببطء او بالتقسيط! لكن الاوهام هي وقود خداع الذات واذكر ان الكاتب المصري د. جلال امين اصدر كتابا قبل احداث يناير بعدة اعوام عنوانه ما الذي حدث للمصريين؟ واقترحت عليه يومئذ ان نعقد مؤتمرا يتحدث فيه نخبة من الكتاب العرب عما حدث في بلدانهم وشعوبهم. وفي تلك الاونة اصدر الدكتور علاء الاسواني كتابا يتساءل فيه منذ العنوان لماذا لا يثور المصريون، ولو اعاد الاثنان نشر الكتابين لوجدا ان ما حدث من قبل ليس شيئا اذا قورن بما حدث فيما بعد.. اما السؤال عن عدم ثورة المصريين فالاجابة عليه هي ان من ثاروا افرطوا في ثورتهم حتى صدق عليهم المثل الشعبي القائل ان المسروق سبق الحرامي وبالتالي اضاعه.
ورغم كثرة الاستخدام في مختلف وسائل الاعلام والنشر العربية لمصطلح التخلف الا ان هذا المصطلح يبقى غامضا وملتبسا اذا لم يقولوا لنا من تخلف عن من؟
وهل للتخلف باروميتر لقياس منسوبه؟ ام ان هناك نموذجا للتقدم حتى لو كان افتراضيا يقاس في ضوئه التخلف؟
واحيانا تحدث المفارقة فيكون الكلام عن التخلف متخلفا، سواء بمنهجه او رؤاه او المقاربات التي يعالج بها هذا الوباء، فالتخلف شامل وبانورامي وله ايضا من صفات الموت.
فالطبيب الذي يكتب تقريرا عن ميت لا ينفق مئات الصفحات وهو يقول بان هذا الميت لم يعد يتكلم ولم يعد يسمع ولم يعد يضحك او يبكي او ان اصابعه لا تتحرك.. واعضاءه توقفت عن العمل لانه لو كتب تقريرا عن كل هذه التفاصيل لما انتهى بعد عشرة اعوام.
انه يكتفي بالابلاغ عن موت الدماغ وتوقف القلب، والتخلف موت سريري لكن بالمعنى غير العضوي، اي بالمعنى التاريخي والوجودي.
لان هناك مفاهيم تجاوزت التعريف المعجمي لها، كالانقراض مثلا، اذ لم يعد بالمعنى العضوي فقط، وهناك ثقافات ولغات وحتى هويات تنقرض فيما يبقى من ودعوها على قيد الحياة بمعناها الحيواني المحض، يأكلون ويشربون ويتكاثرون، لكنهم ليسوا في هذا العالم حتى لو كانوا من تعداده الديمغرافي.
ان وعي التخلف هو شرط الخطوة الاولى لمقاومة التخلف، وبعكس ذلك، يكون من يتعرض له قد ضاعف منه. ومن يكثرون من توصيف التخلف لا يدركون بان ما يقولونه هو عينات نموذجية من تخلف مغطى بمساحيق التجميل!