0020
moasem
sum
003
004
006
007
008
Bash
Hofa
Diamondd
previous arrow
next arrow

تجليّات المكان في رواية (هاوية الجنون) للمسرحي والروائي “يحيى الحباشنة”

 

وكالة الناس – في أوّل جلسة أدبيّة 2013 حينما عرضتُ عليه مخطوط روايتي(الطريق إلى الزعتري), ما إن قرأ خمسة أسطر حتّى توقّف، وقال: كلّ عمل قصصيّ وروائيّ لا بدّ له من توافر عناصره الأساسيّة التي تقوم عليها، وهي: (مكان –زمان –حدث)، وانخرط في شرح مُعمّق خبير بعراقة كاتب مُخضرم (يحيى الحباشنة).
بعد قراءتي الأولى لروايته (هاوية الجنون) في نفس الفترة، عدتُ لقراءتها في نهاية 2020هذه الفترة أفسحت لي المجال لرؤى لم تتحقّق لي في المرّة الأولى؛ فتوقّفتُ عند ظاهرة بدَت لي واضحةً منذ الصّفحات الأولى من هاوية الجنون.
(تبدأ روح المكان بفرض هيبتها وحضورها على العقل؛ لتُشكّل وحدة مُتكاملة مع كلّ أشكال الحياة، تتلك الوحدة العُضويّة بينها وبين البيوت المُنتصبة على الجانبيْن، والأشجار تقفُ شاهدةً على استمرار الحياة) ص58.
تتجلّى رؤية الكاتب في روايته المُنطلقة من المكان إلى رحاب العقل والفكر، والحوار الواعي المُثقّف بين شخصيّتيْن أساسيتيْن في الرواية هما (زياد ونبيه)، فهذه الحوارات حول القضايا الوجوديّة القلقة ساعية لقناعات الإيمان، أضافت بُعدًا زاهيًا للمكان برُقيّها، رغم توهّج ذلك المكان أصلًا بالحياة النّابعة منه؛ فالتداخلات النّاشئة تلوّنت بواقعيّتها الفكريّة السّائدة آنذاك في الأوساط الثقافيّة، فالمكان احتوى الحدث الروائيّ وما ضاق به، من تحرّكات شُخوصه من شوارع وأزّقة مدينة عمّان وأحيائها، وصعودها وهبوطها، ووسط البلد وجبالها السّبعة آنذاك.
وهذا يستلزم منّا الإشارة في هذا المنحى لزمن الرّواية في أوّل صفحة منها، بعد المُقدّمتيْن التعريفتيّتيْن بها من الدكتور (محمد الحباشنة)، والدكتور (حامد يوسف قنبيبي): (كان ذلك في صيف 1981م. درجة الحرارة تصل إلى أعلى مستوى لها) ص19.
وعلى اعتبار أنّ الوعاء الروائيّ عمومًا يستوعبُ كافّة أشكال الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والدينيّة والمعتقدات، ونشاطات المجموعات البشريّة على اختلاف انتماءاتها، فلا أدلّ على رواية (هاوية الجنون) إلّا أنّها وثيقة تاريخيّة شاهدة على مرحلة زمنيّة من حياة الأردنيّين، رصدت جوانب كثيرة مهمّة عن السّاحة الثقافيّة برموزها المعروفة وغير المعروفة، منطلقة من رابطة الكُتّاب الأردنيّين في (جبل اللويبدة) في عمّان: (ارتفعت أصوات الكُتّاب بجدل مُستمرّ حول هموم ومشاغل الحركة الأدبيّة المختلفة، فهناك في مكتب الإدارة الكاتب الصحفي ناهض حتّر، ومحمّد المشايخ، وإبراهيم نصرالله، أمّا محمّد طُمليّة، وإبراهيم العبسي، وأحمد المصلح، و خليل السّواحري، وجمال ناجي؛ فقد كانوا في الرّدهة الجانبيّة يتحدّثون ويشربون الشّاي، انشغل سالم نحّاس في حديث جانبيّ مع الدكتور حسين جمعة) ص20.
-(ظهر الكاتب محمد داووديّة مُمسكًا بذراع سمير الحباشنة يُقهقهان، ثمّ دخل الدكتور خالد الكركي بهدوئه وابتسامته المعهودة) ص 27-28.
-(أقبل في هذه اللحظة أبو حسين يحمل صينيّة الشّاي إلى جانب كأس ماء.. كذلك دخلت الكاتبة والأديبة زهرة عمر، تتبعها القاصّة والفنّانة التشكيليّة رجاء أبو غزالة، أمّا الشّاعرة أمينة العدوان؛ فقد توقّفت قليلًا مُنتظرة النّاقد إبراهيم خليل، ودخلا) ص28.
-(اختار زياد أن ينضمّ إلى إحدى الفرق المسرحيّة النّاشئة (فرقة جدايل) التي أسّسها جبريل الشّيخ، مع المُخرج هاني صنوبر) ص54.
-(شاهد صديقه صلاح الحوراني أحد أعضاء الفرقة المسرحيّة) ص55.
-(لم يكُن دور زياد رئيسًا أو مُهمًّا، إنّه لم يتجاوز عن كونه أحد عناصر الكومبارس، كما أحبّ أن يصفه غنّام غنّام في إحدى الجلسات) ص58.
هذه الفقرة تثبت بلا شكّ فكرة التوثيق في هاوية الجنون، وما زالت نديّة بنكهة يوم كتابة هذه الفقرة عن الأدباء والفعاليّات التي كانت، لكن عندما تباعد الزّمن بيننا فقد أصبحت وثيقة تأريخيّة، خاصّة وأنّها ما زالت تعرض هذه الأسماء الحقيقيّة لأصحابها وبصفتهم الشخصيّة، وكثير منها إلى رحاب ربّه، وجعل ذكراهم حيّة تتردّد على ألسنة القرّاء على الدّوام، ولن يُطوى عليها سجّل النّسيان أبدًا ما دامت الرّواية حيّة بين أيدي القرّاء في مختلف بقاع الكون، خاصّة في عصر (العالم قرية كونيّة صغيرة).
فضاءات الأمكنة في رواية هاوية الجنون انطلقت بداية من وصف لمبنى (رابطة الكُتّاب الأردنيّين)، وحسب منصّة (ويكبيديا): (تنظيم نقابيّ يَضُم الأُدباء الأردنيين في مُختلف مَجالات الأدب من رواية، وشعر، وقصة، وأبحاث ونقد أدبي وغيرها. تأسّست رابطة الكُتّاب الأردنيين سنة 1974، بدعوة وتنسيق وقيادة الكاتب والروائي والأديب سالم النحاس؛ لتكون البيت الذي يجمع الكُتّاب الأردنيّين، ويُوحّد جهودهم في إبراز الأدب الأردنيّ، وإيلائه الاهتمام اللّازم. وكان أوّل رئيس لرابطة الكُتّاب الأردنيّين هو الأديب عبد الرحيم عمر).
وفي هاوية الجنون: (صُنّاع الثّقافة باختلاف إبداعاتهم، نراهم دائمًا يتفيّؤون في ظلال مبنى صغير مؤلّف من طابقيْن، الطّابق الأرضيّ منه هو سكنٌ لإحدى العائلات مُنخفِضٌ عن مستوى الشّارع، بينما الطّابق الأوّل تشغله رابطة الكُتّاب الأردنيّين، أربع غرف، صالتان صغيرتان مُتّصلتان، أُعدّتا لتكونا قاعة تُناسب النّدوات الأدبيّة، أمّا باقي الغرف فتستخدم للإدارة، والمكتبة، وغرفة الاجتماعات، والسكرتاريا). هذا الوصف الدّقيق للمبنى كأنّه عدسة كاميرا؛ انتقلت بالقارئ ببثّ حيّ ومباشر من داخل المبنى، وعرض واضح تمام لتخيّل المكان العتيد، الذي شهد أحداثًا وأشخاصًا تباعدت بينا وبينهم شقّة الزمن، ومع انتقال الرابطة إلى مبنى جديد خلال العام الماضي 2109تكون أهميّة التوثيق الذي أتَتْ عليه الرواية.
وبالخروج من مبنى الرّابطة تتبدّى المشاهد الخّلابة لمدينة عمّان من إطلالة اللّويبدة، ليحدث في ذهني ذاك التناصّ في أسماء الأماكن التي وصفتها رواية (سيرة مدينة عمّان)، وهي عمل توثيقيّ ما بين التاريخ ومحمل السّرد الروائيّ؛ رصد فيها الروائيّ (عبد الرحمن منيف) كلّ جوانب المكان الذي عاش فيه طفولته من علاقات النّاس واهتماماتهم وطقوسهم في الأحزان والأفراح. خلال حقبة تاريخيّة خصبة للحالة الثقافيّة والسياسيّة لعمان في الأربعينيّات، حافلة بأسماء الأماكن والشخصيّات؛ رغم حرصه على أن تكون المقاربة غير تاريخيّة وغير روائية كذلك بقالب خاصّ مُفرّد بتآلفه مع نسيج الذكريات.
وهذا شأن رواية (هاوية الجُنون) بتعالقات في الطّرح مع (سيرة مدينة عمّان)، وكأنّها عدسة مُصوّرٍ هاوٍ مُتذوّق لجماليّات المكان في لحظة انتشاء روحيّ ونفسيّ في رحاب المكان.
(زياد مُطيع) بطل رواية (هاوية الجنون) القادم، وهو الرّاوي المُوازي للكاتب، (فما هو إلّا شابٌّ قرويٌّ قدم من بيئة أشدّ قساوة من صخور قرية راكين إلى المدينة قبل عاميْن) ص34. وقرية راكين من محافظة الكرك جنوب الأردنّ، تقع على بُعد خمسة عشر كيلو متر إلى الشّمال من قصبة الكرك.
فالأماكن لها لغتها بما تركت في وجدان وضمير من مرّ بها، بما احتملت من ألوان ضُروب حياته بين الفرح والحزن، والغنى والفقر، والشّباب والهَرَم، والقُوّة والضّعف، سيرة الأمكنة تُعشعش في دواخل الإنسان، وهو ما عبر عنه شاعر الحماس (أبو تمّام):
نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحبُّ إلا للحبيـــــــب الأوّلِ
كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى *** وحنينُــه أبــداً لأوّلِ منــــزلِ
ولنترك المكان العمّانيّ ينثر فوحه العاطر في سطور هذه القراءة، ليخرج من صفحات هاوية مُتباهيًا بجماله. المكان جبل اللويبدة: مكتب تكسي العربي، رابطة الفنانين، وفي وسط البلد (المدينة): شارع السّلط، مطاعم القدس، مقر الإخوان المسلمين، مقهى السنترال، بار السّلمون، شارع بسمان. جبل عمّان. حيّ المصاروة. شارع صقرة شارع الدوّار الثالث، دوّار الدّاخليّة، المسرح الثقاف الملكي ، نفق الدّاخليّة، فندق الرّيجنسي. وخارج عمّان منطقة البقعة، وعين الباشا.
هذا بعض الأماكن التي وردت في الرواية على سبيل الاستدلال بها على عنوان القراءة، ففي ظلّ التقدّم التقني لن يعجر عن معرفتها بدقّة مُتناهية ايّ باحثّ عنها في آخر نقطة في الكرة الأرضيّة من خلال برنامج خرائط (جوجل إيرث).
وبالنزول إلى قاع المدينة أو وسط البلد البوتقة الحاملة لكلّ شيء، فلو تدرّجنا رواية (قاع المدينة) للروائي (صُبحي فحماوي) فلا نرى إلّا القاع الأسود النّاضح بالفقر والمخدّرات والسّرقة والانحرافات بجميع أشكالها؛ فالجمال والقُبح مُتفاوت حسب رؤية الكاتب، وما يريد لفت الانتباه له؛ لإيصال رسالته أيًّا كانت خلفيّته الفكريّة المرجعيّة من خلال عمله السّرديّ.
وقبل مغادرة المكان بدلالاته البعيدة والقريبة، لا بدّ من التعريج على القضيّة الكُبرى التي احتوتها رواية (هاوية الجنون). قال أحد الفلاسفة: (على الفيلسوف إيجاد الأسئلة، لا الإجابة عليها)ص38.
-(لكنّ الاشتعال لا زال في الخيال؛ مُردّدًا ذات السّؤال: ماذا عن الزّوال؟. ماذا عن المال؟. وهل يظلّ العقل في ظِلال، يهُدّه الكلال، والقهر والملال، ويترك اللاشيء للأجيال؟. الاشتعال.. الاشتعال لازال في الخيال، مُكرّرًا ذات السّؤال) ص38.
ارتباط الرواية بموضوع العقل المُفكّر الباحث عن الإجابات بعدما أدرك التساؤلات، وأذكر مقولة شائعة على ألسنة النّاس: (خُذ الحكمة من ألسنة المجانين)، فكما ورد على لسان نبيه عقل محور الرواية الذي دارت حوله جُلّ أحداثها: (أنا لم أُعانِ من مرض نفسيٍّ.. أنا مريض عقلي، وهناك فرق رغم أنّ بعض الأطبّاء شخّصوا مرضي على أنّه مرض نفسيّ، لكنّي أعي مرضي جيّدًا) ص45.
-(لا بدّ أن يُعالج عقلي بواسطة عقلي، إذ لا زال الطبّ النفسيّ كطفل يحبو) ص45.
-(أنا لستُ واعظًا.. لكن البحث عن الخلاص يجعلني في قلق، واشتعال يُمزّق خلايا الدّماغ بحثًا عن حقيقة الوجود) ص43-44.
بهذه الاقتباسات من رواية هاوية الجنون تبرزّ هويّتها الفكرية، وبما داورت هذه المحاور، التي شغلت قديمًا وحديثًا عقول المُفكّرين والباحثين، منذ الحّلّاج، والنفّري، ابن عربيّ، وغيرهم، ومن المؤسف ممن لم يفهم مقاصدهم الكلاميّة ذات المرامي الفلسفيّة، أو ممّن تأوّل كلامهم على غير مراميه؛ فرماهم بالكفر والضّلال، ولم يتوقّف الجدل الفلسفيّ منذ القِدَم حتّى يومنا هذا، مُقابل فريق عموم النّاس الذي يُمثّل الأكثريّة التي لا تُدرك كثيرًا مما يقول الفلاسفة؛ لصعوبته.
بقلم الروائي. محمد فتحي المقداد