0020
0020
previous arrow
next arrow

من أعطى قيمة للآخر .. الإنسان أم الجغرافيا ؟؟

 

 

وكالة الناس – في اقصى جنوب شرق المملكة، وقع بين يدي مجموعة نقوش ثمودية، أحدها كان مشهداً للصيد خَطـّه ثمودي بإحتراف ليترك اثراً يدل على حادثة ابطالها ثمودِيَيْن صيادَيْن بالقوس والنبال، ومعهما كلبين للصيد، المشهد بناء معرفي متكامل لنمط حياة كان يمارس من قبل الاقوام التي سكنت الارض القاسيه، وإستغلت إمكانات الجغرافيا الطبيعية وأسرارها.

المكان الذي شهد هذا الحدث  يقع على قمة هضبه ترتفع عن محيطها حوالي 70-80م، ويبعد عن طريق المدورة حوالي 45كم الى الجهة الجنوبية الشرقيه في منطقة الديسة، كما يرتفع عن سطح البحر حوالي 915م، وهي هضبه سوداء منفصلة عن الهضاب التي تنتشر في المكان، ويفصلها جميعاً مسطحات من الرمال الذهبية والوردية مشكلة في جملتها وتفاصيلها لوحة إبداعية تدلل على عظمة الفنان.

قال الإصطخري: الحِجْر قرية صغيرة قليلة السكان، وهو من وادي القرى على يوم بين جبال، وبها كانت منازل ثمود؛ قال الله تعالى:” وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين”؛ قال: ورأَيتها بيوتاً مثل بيوتنا في أَضعاف جبال، وتسمى تلك الجبال الأَثالث، وهي جبال إذا رآها الرائي من بعد ظنها متّصلة فإذا توسطها رأَى كل قطعة منها منفردة بنفسها، يطوف بكل قطعة منها الطائف وحواليها الرمل لا تكادُ  ُترتقى، كل قطعة منها قائمة بنفسها، لا يصعدها أَحد إلا بمشقة شديدة، والـحِجْرُ: ديار ثمود ناحية الشام عند وادي القُرَى، لقد جاء الوصف مطابقاً لواقع جبال الديسة التي حفظت اللوحة الثموديه لاكثر من الفي عام.

اما محتوى النقش فهو الوعل او تيس الجبل كما سُمي في لسان العرب، الذي يُستدل من النقش انه من حيوانات هذه البيئة، لانه يأوي الى رؤوس الجبال وشعفها، وفي حديث أبي هريرة في “النهاية في غريب الحديث” عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”لا تقوم الساعةُ حتى تعلُوَ التُّحوتُ وتَهلِكَ الوُعُول”، أراد بالوعول الأشراف والرُّؤُوس، شَبَّههُم بالوعول، وهم تُيوسُ الجبل، واحِدُها: وَعِلٌ، بكسر العين، وضَرَب المثل بها لأنها تأوي شعفَ الجبال.

اما الاحرف التي جاءت ضمن اللوحة فهي حروف ثموديه وبغض النظر عن معناها ومضمونها، فهي تدل بما لا يقبل الشك على شيوع فن الكتابة بين الناس، وهذه قيمة رائعه من قيم الانجاز الحضاري لامم الشرق في بواكير حقب التاريخ، ففي الوقت الذي إعتقد فيه بعض الباحثين ان معرفة الكتابة إقتصرت على بعض ابناء المجتمع الذين إقتضت مصالحهم ومهنهم هذه المعرفة كالتجار من اجل تنظيم عقود البيع والشراء، يأتي هذا النقش ومثيلاته من النقوش لتؤكد ان معرفة الكتابة كانت شائعه بين الناس حتى عند العوام.

كما يستدل من النقش على قضية اخرى، وهي رحلات الصيد، ففي المشهد الذي يصور الحادثه نرى صياديْن ومع كل منهما كلب صيد وقوس، ومن المؤكد ان علاقة ما جمعتهما، فربما كانا صديقين يمارسان هواية توافقا عليها وهي صيد البرّ، وربما كانا قريبين اوكلت لهما مهمة تأمين الطعام لاهليهما، وربما كانت مهنة الصيد هي وسيلتهما في الاسترزاق ببيع الصيد لتأمين حاجاتهما، وهذا حقيقة ما اميل اليه، فمهنة الصيد معروفة منذ القدم، وأسْتدِل على ذلك ان مع كل منهما كلب صيد مهمته جلب الصَيْد لان اداة الصيد قوس وسهم، وربما نقل الصَيْد جرحه لمسافات، عندها تكون مهمة الكلب متابعته حتى تخِرّ قواه نتيجة النزف، كما ان من مهمات كلب الحراسة محاصرة الصيد ومنعه من الهرب حتى تناله سهام الصياد.

وهذا ما نلحظه في هذا المشهد، ولقد خلا المشهد من صورة لجمل او حصان كان الصيادون يستعملونها في الوصول الى اماكن الصيد او مطاردة الفريسة، إضافة الى نقل الغنيمة بعد صَيْدِها، وهذا يُدلل على ان المشهد حقيقي، فالمكان الذي وُجد فيه النقش عصّي على الخيل والجمال وحتى الدواب، وهو بيئة تيس الجبل بإمتياز، ولذلك يمكننا إستقراء الحادثه على انها وقعت على قمة الهضبه حيث تمت عملية الصيد بمعاونة الكلبين، ومن قبل الصياديْن، ثم خلّدا الحادثة في هذا المشهد المصور بإتقان.

إن المنطقة الواقعة في اقصى جنوب شرق المملكة مليئة بالتشكيلات الطبيعية الفاتنه، وهي بكل جزئياتها وتفاصيلها ومناخها ونباتاتها وحيواناتها مثيرة للالباب، وفيها من اسرار الطبيعة والغموض ما يجعلها عصيّة على الفهم والاستيعاب، ولكنها في ذات الوقت صورة من صور الابداع الالهي، وفيها ايضاً دلالات عظيمة على قيمة التحدي للظروف التي ميّزت الكائنات الحيه، وفيها ايضاً معاني إستجماع الاراده لقهر الظروف، فالطبيعة لا تقبل فكرة التنازل عن قساوتها، ولكنها تتطوع في التشكل إذعاناً لارادة التحدي. المهم في الامر ان هذين الصيادين الثموديين بهذا الفعل أعْطيا قيمة للمكان، فأصبحت إرادة الانسان وسِرّ المكان عنوان الماضي وقيمة الحاضر.

بقلم: د. هاني الفلاحات