0020
0020
previous arrow
next arrow

النهر لا يعبر مرتين!!

 

هناك مقولات خالدة منها ما لا يتجاوز بضع كلمات، لكن شرحها قد يستمر إلى الإنسان الأخير على هذا الكوكب منها عبارة «هيراقليطس» التي تقول إن النهر لا يعبر مرتين، بعكس المستنقع أو الماء الراكد الذي يمكن عبوره آلاف المرات بحيث يكون لونه عكراً من فرط ما تلوث بالأقدام.

 والفضل بعدم عبور النهر مرتين هو لجريانه بحيث يتبدل فوراً، وقد لقيت هذه المقولة تأويلات سياسية وثقافية لا حصر لها منها مثلاً ان هناك مواقف في التاريخ لا يمكن تكرارها كما هي، وحين تتكرر تكون إمَّا مأساة أو ملهاة، وكذلك الشخصيات الفاعلة في التاريخ، ما دام لكل حدث سياقه ومقامه وبالتالي حيثياته التي لا تقبل التكرار!

وحين نقرأ عبارات يراد بها المديح من طراز الكاتب العربي الفلاني هو ديستوفسكي العرب، أو الشاعر الفلاني هو شكسبير العرب فإن هذا المديح الظاهري رغم حسن النوايا ينطوي على هجاء لأن هناك ديستوفسكي واحدا وشكسبير واحدا، كما أن هناك متنبي واحداً وجاحظاً واحداً وابن خلدون واحداً.

وفي الثقافات التي تشكو من عقدة نقص، وتحاول محاكاة الغالب، يكون المشبه به هو ذلك الغالب، لهذا لم يقل الإنجليز إن شكسبير هو متنبي بريطانيا أو أن «برنارد شو» هو حاحظها أو ابن خلدونها، وهناك أمثلة لا تحصى في مختلف مجالات حياتنا عن هذا الإحساس بالنقص والقصور إزاء الآخر الذي تحوَّل بفضل الغلبة أو النفوذ إلى نموذج يقاس عليه ولا يقاس على أحد.

إن عدم عبور النهر مرتين يشمل أيضاً أبطالاً في التاريخ، لهذا يصبح وصف شخص ما في العالم الثالث بأن مانديلا الثاني أشبه بالكوميديا السوداء أو الكاريكاتور، فلا يقلل من شأن أي رمز أن ينسب إلى اسمه و وطنه وزمنه كيلا يتحوَّل إلى نسخة كربونية طبق الأصل.

لكن هناك من يحترفون عبور الأنهار عدة مرات في اليوم، إمَّا لعدم فهمهم مقولة هيراقليطس أو لأنهم يتصورون المستنقعات والبرك الآسنة أنهاراً.

فالإنسان مهما بلغ في عصره يجب النظر إليه كما هو، لأنه ليس ظلاً أو صدى لأحد سواه. لكن ثنائية المشبَّه والمشبَّه به قدر هؤلاء الذين يقيمون في القيعان وليس على قمم الجبال أو حتى سفوحها!!