0020
0020
previous arrow
next arrow

الهروب من انفلونزا السياسة..!!

ما الذي يطلبه المستمعون هذه الأيام؟ تحليلات سياسية عن خطة كيري وصرخات الوطن البديل ، وصلات عن (استعصاء)التغييرات الذي يقال انها تأخرت ، مزيد من زوايا  حظك اليوم  وما تخبئه الابراج للطامحين في مواقع جديدة ،أخبار عاجلة عن اعداد اللاجئين القادمين من الشمال وتسخين الجبهات هناك ،قليل من التوضيحات حول حقوق مدنية او مزايا لابناء المتزوجات من غير الاردنيين ،صلوات استسقاء جديدة لنزول مطر السماء ومطر الاصلاح ايضا .
لم يعد المستمعون “اليوم “ يطلبون الاغاني، ولا ينتظرون برنامجاً اذاعياً ينقل “أشواقهم” الى الاهل البعيدين، فالمطالب “تغيرت” وثورة الاتصالات أتاحت للجميع ان يتواصل “بكبسة زر”، والجيل الذي كان مشغولاً بالطرب أصبح مشغولاً “بالحرية” والكرامة.. وأقلها بمستوى عيش لائق او فرصة عمل او مقعد دراسة.
ليس هذا فقط ،المستمعون اليوم يسألون : ماذا عن ملفات الفساد والاموال التي هربت وربما لن تعود ،ماذا عن الجفاف المائي والسياسي ،عن ملفات المديونية والاقتصاد المتعب ،هل نتذكر بانه كان لدينا مشروع اصلاح انطلق ثم ما لبث ان تأجل، وكانت لدينا احلام تحولت الى كوابيس، وكنا مشغولين باحتجاجات تنتظرها شوارعنا  كل جمعة ثم  هدأت وربما احتضرت ، والاهم من كل ذلك، اين نحن الان ،وماذا نريد وفي اي اتجاه نسير
ما لم تستطع ان تجيب عنه السياسة او تفعله ، تنهض به الصحافة ووسائل الاعلام بأنواعها المختلفة .. وما نعجز عن تنفيذه نكثر من الحديث عنه ، ونقتله بالكلام ، وهذه – بالطبع – سمة كثير من المجتمعات التي تعودت على الهروب من العمل الى الكسل ، ومن الواقع الى المجهول ، ومن محاسبة الذات الى ابتداع الذرائع وتعليقها على الآخرين ، ومن الانجاز الى تمجيد ما يمكن ان ينجز ، ومن مناقشة السياسات الى ملاحقة اخبار الساسة.
لا يهم من تغول على الاخر :الصحافة ام  السياسة؟  المهم  ان الفراغ الذي تركه غياب الفعل السياسي المؤثر وجد من يملؤه ، لا تسأل – بالطبع – كيف؟ فقد تابعنا على امتداد الايام الماضية فصولا مدهشة من السجالات والنقاشات التي تتحدث عن كل شيء ، ولا نفهم منها اي شيء ، وفصولا اخرى من التحليلات والتنبؤات التي تفوق اصحابها على  قراء الكف والفنجان  ، وكاد بعضنا ان يتحول – فعلا – الى كتابة  الابراج السياسية  او مطالعة ما ينشر في صفحات  حظك اليوم  – ولكن بنكهة سياسية هذه المرّة،  اما مجتمعنا  فقد تحول الى مجرد (اسنفجة) تمتص كل شيء،  لكنه لم يعد قادرا على  الامتصاص، اتعبه الكلام الطويل عن الفرج الذي سيأتي ، وعن الخطر الداهم ،وخذلته النخب التي استنزفته بشعاراتها المغشوشة،فلم يعد يثق بها ولا بالسياسة .
على فكرة، التحولات التي اجتاحت عالمنا العربي  لم تُسقط “وهم” الزعامة السياسية فقط ولا شرعية الحكومات التي استهترت بالناس، ولا “الضمائر” التي ماتت على كراسي السلطة، وانما اسقطت قبل ذلك “اوهام” الثقافة الفاسدة و”منابر” الوعي المغشوش، “وضمائر” المثقفين الذي خدعوا جماهيرهم وأضلوهم، اسقطت “انتهازية” اصحاب الصوت العالي ومدبجي البيانات الرنانة، و”كذبة” النخب التي تقود الجماهير الى الحرية.
صحيح اننا فيما  مضى  من سنوات كنا نشكو من استقالة الناس من السياسة وعزوفهم عنها ، لكننا اليوم – للاسف – نشعر بأن السياسة استقالت من نفسها  وانسحبت من بيننا ، وبأن الفعل السياسي الذي كان يشدنا إليه اصبح على الهامش بانتظار من يتعرف عليه ، او هو – ان شئت الدقة – مجرد طلاء نزين به جدران نقاشاتنا وحواراتنا التي أصبحت هي الاخرى تخشى من ( انفلونزا الوطن البديل) .. تصوّر كيف انتقلت هذه العدوى من صالوناتنا السياسية الى مدارسنا وشوارعنا .. ومن  نخبنا في مواقع التنوير والتنظير الى اهلنا في ميادين العمل والتطوير..تصور ان ما انفقناه من جهد على بناء الوطن الاصيل لا يشكل نقطة في بحر ما بذلناه من وقت وجهد لدحض فكرة الوطن البديل ..تصور ايضا ان الذين يتدافعون اليوم لتخويفنا من هذا الوهم هم انفسهم الذين عطلوا مشروع الاصلاح وشيطنوا دعاته والّحوا علينا لكي نرضى بالواقع و بالقسمة التي وضعوها لنا.
يحاصرنا انفلونزا السياسة من كل اتجاه، لدرجة اننا نحاول الهروب من اسئلة كبرى كانت تتردد بيننا بالحاح، فلا اجابات لدينا اليوم لا على سؤال الحاضر المثقل بالازمات ولا على سؤال المستقبل الملبد بالغيوم ، وكأننا دخلنا في مرحلة كمون اضطراري بانتظار (موسم ) اخر ،لا نعرف متى سيأتي ،لكننا – ما اكسلنا..!-على يقين بانهى سيأتي إلينا بدل ان نذهب اليه.
نحن بصراحة  لم نتغير، كل ما حدث اننا كنا نائمين ثم صحونا فجأة لنكتشف ان الدنيا تغيرت حولنا وانه ليس بوسعنا ان نفعل شيئا،فقررنا العودة مرة اخرى الى النوم، لا تقل لي ان النائمين لا يتكلمون ولا  يمشون  فنحن- دون غيرنا من الامم- نفعل ذلك وربما أكثر .