0020
0020
previous arrow
next arrow

العنف بين مشـروعين : «الفتنة» و«المحنة»!

 أخطر ما يجب أن نتنبه إليه في صورة “العنف” التي نلتقطها، سواء في جامعاتنا أو مجتمعنا، هو “القابلية” التي نتمتع بها – للأسف – لاستخدام العنف وتبريره ثم محاولة “تغطيته” وتمريره، ومسألة “القابلية” هذه خطيرة لسببين: أحدهما أن “العنف” أصبح جزءاً أساسا من مكونات شخصيتنا الفردية والعامة، وأصبح  – ايضا – يعبر بسلوكيات مختلفة (سلبية طبعاً) عن “مكبوتات” داخلية نعاني منها سواء في المجال السياسي او الاقتصادي والاجتماعي، والسبب الآخر هو ان “اعترافنا” بالعنف ينحصر فقط في الكلام عنه نظرياً، والتحذير منه، فيما لا نزال عمليا نتعامل معه بمنطق “الإنكار” أو التهوين أو أنه مجرد “استثناء” في مجتمع يتمتع بالقدر الكافي من السماحة والهدوء والتوازن.. وربما تكون هذه النظرة “الاستثنائية” صحيحة لمن يقرأ سطح مجتمعنا، لكنها لا تبدو كذلك إذا ما تغلغلنا داخله.. واذا ما استعدنا “تراثاً” عميقاً يشكل العنف إحدى سماته وبواعثه الأساسية.
يمكن أن أضيف سبباً ثالثاً لخطورة هذه “القابلية” لممارسة العنف وهو ما يتعلق بالمستقبل لا بالحاضر، حيث أن مجرد وجود هذه “القابلية” يشكل “خبراً” مفزعاً قد يواجهنا في أي لحظة، ويمكن – هنا – الاسترشاد بما يحدث حولنا، إذ أن أحدا منا لم يتصور أن “شعوباً” اتسمت شخصيتها – ظاهرياً – بالسماحة يمكن أن تتحول في لحظة “انفجار” الى بركان من العنف..
كل ما يقال عن اسباب العنف في جامعاتنا، والانفلات الأمني والأخلاقي في مجتمعنا يبدو صحيحاً، سواء تعلق بالانسدادات” السياسية، او الأوضاع الاقتصادية، أو تراجع منسوب العدالة في التعليم والخدمات العامة، أو بالتحولات القيمية التي أصابت مجتمعنا، لكن ثمة سببا آخر مهم وهو مخزون “العنف” في شخصيتنا العربية الذي يستند الى  “تراث” طويل وعميق تشكل على هوامش فهم غير صحيح للدين وللعروبة ايضا.
لكي نفهم ذلك لا بأس أن نوسع دائرة نظرنا إلى العالم والأمم المحيطة بنا، وسنكتشف أن “العنف” موجود لديها، لكنه لا يشكل السمة الأساسية لشخصيتها، بخاصة بعد أن “تعافت” من صراعاتها وحسمت أمرها نحو “الديمقراطية” التي مكنتها من اقامة “مشروعات” نهضة وتنمية خاصة بها، على خلاف ذلك فإن العنوان الذي ما زالت أمتنا قابعة فيه هو عنوان “العنف” والصراع.. بما فيه من مشاهد القتل والدم والحروب بأشكالها المختلفة.
إذا سألتني: كيف حدث ذلك، سأجيب على الفور بأن أمتنا انشغلت على مدى تاريخها الطويل بمشروعين اثنين، أفرغت فيهما كل امكانياتها، وجندت من أجلهما طاقاتها، وهما: مشروع “الفتنة” ومشروع “المحنة”، الأول خرج من دائرة توظيف الدين لمصلحة السياسة، وتسبب  بشق “المجتمع” الإسلامي، وانتهى بالأمة الى الركون لحالة من “الاستبداد” والحكم المطلق، صحيح أنها استطاعت أن تتجاوز آثاره السلبية في بعض المراحل والفترات، وأن تحقق انجازات غير مسبوقة في مجالات العلم والفتح و”الحضارة” عموما، لكن الصحيح أيضا أن اسوأ ما انتجته هذه “الفتنة” هو “قابلية” العنف التي وجدت من يؤسس لها فكرياً وعملياً، حتى جاء المشروع الآخر الذي يشكل الوجه الثاني “للفتنة” وهو مشروع “المحنة” هذا الذي يختلف عن “الفتنة” في انحساره بالمواجهة بين “النخب”، حيث استخدم الدين ايضا “سياسياً” لتمكين السلطة من الإطباق على المجتمع وتعميم منطق “الطاعة” عليه، وبالتالي أصبح “العنف” مرجعية لهذين المشروعين، وتأسست “الذات” العربية التي جاء الوحي ليحررها من الخوف والحقد والضغائن ويحثها على السماحة واللين والتقوى والوحدة، على “مبدأ” العنف الذي بموجبه انتصرت الغلبة والقوة و”العصبية” والقبلية على القيم الأخرى الفاضلة كالعلم والأخلاق وسيادة الدولة والعمران..الخ.
كان الدين – للأسف – حاضراً في “المشروعين”: مشروع “الفتنة” ومشروع  “المحنة” لكن الدين هنا لم يكن ممثلا “بالنصوص” السامية بل ببعض الأشخاص الذين فهموه وباشروه بممارساتهم، وبالمجال “العام” السياسي الذي تحركوا فيه، وبالتالي فإن “مصدر” العنف خرج بالضبط من هنا، حيث اصطدم منطق الدين بمنطق السياسة، بكل ما احتملت السياسية من شهوات واجتهادات ومحاولات لبناء الدولة والسلطات على حساب بناء المجتمع والإنسان.
المشكلة أننا تعاملنا – وما نزال – مع هذين المشروعين وما انتجاهما من عنف بمنطق “التقديس” للتاريخ والاشخاص، ولم نسمح لأنفسنا بمراجعة ناقدة لما حدث، وبالتالي فإننا ندفع الآن ثمن هذا “الصمت” بمزيد من “القابلية” والاستعداد لتدمير انفسنا بأنفسنا، فيما الآخرون “يتفرجون علينا، شامتين أحياناً ومشفقين احياناً أخرى!!