0020
0020
previous arrow
next arrow

مقابر بلا كرامة للراحلين.. ولا الأحياء..!

وكالة الناس – شارك أحد الأصدقاء مؤخراً صوراً على “فيسبوك” لمواطنين صينيين يتطوعون لصيانة المقابر القريبة من أماكنهم. وتُظهر الصور كيف أن المدافن في تلك الأماكن فضاءات خضراء وملونة بطريقة تبدد شيئاً من وحشة المكان وإيحاءاته. وليس معروفاً عن الصينيين تقديس الموتى، لكن لمسألة المقابر، كحاضر حتمي في أي بيئة، متعلقات بيئية وثقافية وعاطفية –وربما فلسفية.
لا بُد أن يُصادف المرء في لحظة ما خبرة تشييع راحل عزيز إلى مقره الأخير. لكنّ هذه الخبرة عندنا تزيد الغمّ غمّاً وتضاعف المشاعر السلبية. فبداية، تكون الطرق إلى المكان وفي داخله وعرة مغبرة مُتربة، تُعذِّب الراكب والماشي. وفي الداخل فوضى حقيقية في أغلب الحالات، حيث القبور عشوائية في الموضع والشكل. وهناك مدافن مزروعة وسط الأحياء السكنية ذات منظر كئيب وقاتم في أماكن غريبة.
كما أن هناك طبقية في القبور لدينا أيضاً. فصاحب المال يستأجر بنّائين لتشييد قبر فاخر للراحل بالحجر، وربما يزرع عليه وردات. وبجواره قبر فقيرٍ يُحاط أولاً ببضع قطع من الطوب أو الحجارة لا تلبث حتى تتداعى ويضيع محلها ويصبح مداساً للسائرين.
ربما تكون عشوائية المقابر عندنا وإبقاؤها قفراً أو وسط الأحياء وعلى جوانب الطرقات عملاً مقصوداً –لتذكير المرء بحتمية الموت وترويعه منه مثلاً. لكنّ للموتِ جلاله في كل ثقافة ومكان، سواء كانت المقبرة جنة خضراء أو قاعاً صفصفاً. وربما يكون شكل المقابر لدينا من أسوأ التجسيدات للتعامل مع فكرة الموت، ومع الراحلين والأحياء الذين فقدوهم على حد سواء.
إذا كانت الفكرة هي المساواة في الموت، وعدم إشهار القبور حتى لا تتقدس، فإن ما يحدث في المدافن عندنا هو عكس ذلك بالضبط. وعندما نرى مقبرة في أميركا مثلاً، فإن القبور صفوف مرتبة بالمسطرة، على رأس كل منها شاهدةٌ فقط، ولا يختلف واحدها عن الآخر في شيء، وما فيها بناء ولا من يحزنون. والمساحة مقسمة إلى مقاطع مربعة تفصلها شوارع معبدة وتحفها الأشجار والخضرة. وإذا أراد أحد زيارة قبر قريب أو حبيب، فالوصول إليه سهل والوقوف عنده يسير. ولا نعرف ما الصعب، أو غير الديني أو الأخلاقي حقاً في نسخ هذا النمط والتحول إليه من الشكل المريع الحالي.
لا نعرفُ حقاً ما إذا كان الموتى يشعرون ويرون ما يُصنع بهم في المقابر أو مَن يزورُ ومَن ينسى. وإذا كانوا يشعرون، فيا لبؤس ما يرون. لكنّ للمسألة علاقة بمشاعر الأحياء. فقد يريد أحد أن يقف على قبر عزيز لأنه اشتاق إليه ويريدُ أن يناجيه ويتخفّف من ضغط عاطفي. لكنّ هذه الرحلة عندنا يصحبها العذاب الفيزيائي والروحي معاً، لدى السير في الوعَر مع الغبار وتحت الشمس، والوقوف على أطلال تقبض النفس–إذا وجد الزائر القبر المقصود أصلاً.
في أماكن أخرى، يذهب المشيعون إلى المقابر مرتبين مهندمين يحملون الورود. وحتى طريقة نقل المتوفى تختلف وفيها احترام له ولأهله. إنهم لا ينقلونه في “بيك أب” أو “باص” متهالك، ولا يضعونه في نعشٍ مُجمَّع كيفما اتفق من خشب الطوبار، وإنما يشيعونه في سيارة لهذا الغرض، وفي نعشٍ حسن الهيئة. وعلى القبر لا يقولون ما يروِّع المشيعين بقدر ما يقولون شيئاً وداعياً لطيفاً. وربّما تشيع هذه التفاصيل بعض السلوى في نفوس أهل المتوفى والمشيعين بدلاً من رؤية الفقيد يقطع رحلته الأخيرة بشكل زريّ ويوضع في مكانٍ زريّ.
الموتُ حقّ، ولو أنّه موجع. والأماكنُ التي يُودَع فيها الراحلون حاضرةٌ كجزء من وقائع الحياة. وأياً كانت التبريرات، فإنه لا يجوزُ أن تكون هذه الأماكنُ سبباً لتشويه المشهد وتعذيب الروح معاً. وما مِن منطقٍ عمليّ في جعل المقابر التي تكثف فكرة الموت زريّة على هذا النحو، ولا التشييع متعباً على هذا النحو، بزعم أن ذلك يردعُ الأحياء ويهذّب السلوك، لأنّ ذلك لا يحدُث. وإذا كانت رحلة الإنسان لا بدّ أن تنتهي هناك، وكان ذهاب الأحياء لتشييع الأحباء أو العودة لزيارتهم هناك حتمية، فلا معنى لأن يكون ما يصاحب ذلك من الانطباعات والكيفيات والأماكن تعذيباً وازدراء لكرامة الراحلين والأحياء على حد سواء!علاء الدين أبو زينة