0020
0020
previous arrow
next arrow

الاستقلال من الألق إلى القلق

وكالة الناس – د. رجائي حرب

إنه لمن دواعي سروري واعتزازي في ذاتي أن أكتب في مناسبة استقلالنا الأردني الرابع والسبعين لأعبر عن عظيم إيماني وثقتي بهذه الأرض التي توهجت منها معاني الفخار والكبرياء.

أقف وقفة الإنسان الذي نبتَ مع سنديانات الوطن، وارتفع شامخاً في سمائه، يتنفس الحرية، ويرتوي من رحيقه المختوم بختام المسك الطافح من جنباته المباركة، فأمتطي صهوة فطرتي، وأتسلحُ بشجاعتي، وقوتي، لأرد الجميل للوطن الذي أعطانا دون مقابل؛ أرد له الجميل في عُسرته التي فرضها عليه المغرضون والحاقدون الذين أرادوا به السوء من متآمري الخارج وفاسدي الداخل؛ وأؤكد أن التراجع أو الامتناع عن الانحياز للوطن في هذه المرحلة الصعبة يعتبر خيانة لله وللرسول، وللأرض التي نبتنا منها وصار حقاً علينا الوقوف معها في هذه المرحلة المتردية من الزمن، والتي يكون الصمت فيها تواطؤاً وقبولاً بالذل والهوان.

إن استقلال الأرض الأردنية بدأ كفكرةِ (أُمَّةٍ)، وحلمٍ عربيٍ أصيل، كاد أن يتحول لمملكةٍ عربيةٍ موحدة، وبتزكيةٍ من الزعامات العربية التي اجتمعت في مؤتمر دمشق عام 1915؛ فقام دستورها وجيشها وقيادتها على أسسٍ عربيةٍ أصيلة، وبقيتْ تحمل معاني العروبة وقيَمها الى وقتنا الحاضر، وبقينا نفتخر بنقاء هويتنا العربية الجامعة التي كانت تستوعب كل اللاجئين واللائذين بحمانا العربي الأردني.

وعندما نتابع مسيرتنا في عمرنا الرابع والسبعين نجد أن إسرائيل تحاول وبكل إمكاناتها، ومن خلفها الحركة الصهيونية الحاقدة أن توظف إمكاناتها الهائلة من أموالٍ ولوبياتٍ ومكاسبَ سياسيةٍ وتَحَكُّمٍ بصناعة القرارات العالمية، للنيل من هذا الوطن وشعبه وقيادته وأرضه، وتحاول دائماً تعكير صفو استقلالنا، ووضع العراقيل في طريق تقدمنا، فذلك من نوائب الدهر التي عانينا منها وما زلنا لغاية هذه اللحظة؛ إن هذا الكيان البائس لن يأل جهداً في استخدام أوراقه الضاغطة لتحقيق مآربه وتنفيذ مزاعمه المبنية على الاحتلال والتسلط وقضم مساحات جديدة سعياً لبناء حلم إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل وإدخال المنطقة برمتها في فوضى سياسية لا يمكن لأحد أن يتنبأ بمآلاتها.

إن دوام الأطماع اليهودية في أرضنا الأردنية المقدسة، وتشدقهم الدائم بأن الأردن جزء من (أرض إسرائيل)، وتمسُّك الصهيونيةِ العالمية بضرورة ضمّ شرقي الأردن إلى الوطن القومي اليهودي الذي حصلوا عليه بموجب (وعد بلفور) الخبيث، ووصف (مناحيم بيغن) أيامَ ما كان زعيماً لمنظمة (أرغون) بأن شرقي الأردن هي (الأراضي التي يحتلها العدو)، ودوام إلقاء نشيد منظمة الشباب اليهودي الذي يقول: لنهر الأردن ضفتان – الضفة الغربية لنا، والضفة الشرقية لنا؛ ومحاولات استيطان اليهود في الأردن عام (1867م) في منطقة جلعاد، وتأسيس شركة شراء الأراضي عام (1871م)، وزيارة البارون (روتشيلد) لفلسطين عام (1887م)، ودعوته للاستيطان في الأردن، ورصد مبالغ مالية طائلة لشراء الأراضي فيها.

ثم محاولة إسرائيل عام (1968م) دخول منطقة الكرامة بجيشها الجبان للاستيلاء على مرتفعات السلط، ودحرهم من قبل أبطال جيشنا العربي المصطفوي في موقعة الكرامة الخالدة، جعلتهم يفكروا ألف مرة قبل تكرار مثل تلك التصرفات الصبيانية، إضافةً إلى محاولة السياح اليهود القدوم للأردن والانفراد في أماكن معينة ليبحثوا عن آثار أجدادهم منطلقين من أسفار التوراة المحرَّفة التي تقول أن أجدادهم استوطنوا أرض الأردن قبل دخول فلسطين؛ في حين أن الروايات التاريخية القديمة تؤكد (أن اليهود لم تطأ أقدامهم أرض أدوم)؛ وهي الأرض التي تمتد من وادي الحسا شمالاً إلى العقبة جنوباً بما فيها مرتفعات الشراة المحيطة بالبتراء.

كل تلك المحاولات إضافةً لمشاكل المنطقة كلها، وربيعها العربي المخضب بالدم الحرام، وعدم قدرة الدول العربية على السير بمشاريع الوحدة الدائمة، والمحاولات الدائمة لتغيير بوصلة العداء عن إسرائيل لغيرها من دول المنطقة، وواقع أمتنا العربية المتردي والقائم على التشكيك والتنصل من المسؤوليات تجاه القضية الفلسطينية، والهرولة المبتذلة نحو التطبيع مع عدونا الأوحد، والتسابق نحو تقديم قرابين الولاء له، وأمام تصريحات المسؤولين الاسرائيليين الخارجة عن اللباقة وقواعد الدبلوماسية، وفلسفة التوسع الدائمة وحلم الاستيطان المتواصل، وأمام الانحياز الامريكي في عصر ترامب الجمهوري اليميني المتطرف لها، وانشغال أوروبا في مقاومة فيروس كورونا وتجاهلها قضايا العالم في هذه المرحلة، وعدم فهم معظم دول العالم لطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، وبعد بقائنا كأردنيين – وقلةٍ من العرب – وحيدين كرافضين لتصفية القضية الفلسطينية، مع تلاشي الدعم العربي للاقتصاد الأردني وربطه بالانحياز والاصطفاف السياسي، ومطامع بعض العرب بالوصاية الهاشمية، كل ذلك يضعنا كأردنيين في موقفٍ لا نحسد عليه.

إن كل هذه المعطيات لتؤكد دوماً على دور الحركة الصهيونية الدائم في توريط الأردن في الكثير مما يشغله اليوم عن التقدم نحو الامام؛ وليس ببعيد عن مؤامرات هذه الحركة العنصرية اليمينية المتطرفة التي تعتبر أرض الأردن أرض الأجدادٍ ولهم فيها حقٌ غيرُ قابلٍ للتنازل عنه مثل: قبر سيدنا هارون، ومدينة البتراء، ومملكة (حشبون) التي هي منطقة (حسبان) و(مادبا)، وأم العمد و( نهر يبُّوق ) الذي كان ينبع من رأس العين وسط عمان؛ مثل هذه المزاعم الواهية ليست ببعيدةٍ عنهم وعن مشاريعهم وأحلامهم.

إننا اليوم كشعبٍ أردنيٍ- عانى ما عانى- مطالبون في عيد استقلالنا الرابع والسبعين – وقبل أي تحرك سياسي؛مطالبون جميعاً بالالتصاق أكثر بهذه الأرض، بعدما تم ممارسة أبشع مؤامرات التفقير والتجويع ضدنا، وقطع أرزاقنا وحرماننا من الاستقرار، وتَحَمُّلنا لأفواج اللاجئين الهاربين من مآسي الفتنة في بلادهم، مطالبون للوقوف في وجه كل محاولات التركيع الممنهجة والساعية لقطع علاقتنا مع وطننا الذي عشقناها وتربينا فيه وأكلنا من خيراته واحتوانا في أفراحنا وأتراحنا، مطالبون بإحداث التغيير المطلوب الذي يتناسب مع شموخ الأردنيين وعزتهم وكرامتهم، ومع ما رسموه بدمائهم من مواقف مشرفة على أسوار القدس وفي باب الواد واللطرون.

ومطالبون بضرورة بث الروح الوطنية في قواعد شعبنا العظيم في (المدن والقرى والبوادي والمخيمات) لشد الانتباه نحو الوطن كأولوية معاصرة في ظل تصفية القضية الفلسطينية وضم غور الأردن، لأن هذا الوحش الصهيوني المهجَّن والمتعطش للدم سيوجه أنظاره نحو الأردن ليحاول إحياء بعض الأفكار البالية والمرتبطة بمسودات (وعد بلفورد الأصلية) التي تعتبر أرض الأردن جزءاً من الوعد المشؤوم، وليلعب هو ومن على شاكلته من مؤيدي الغرب ومُطبِّعي العرب لعبتهم (اللئيمة) بتصفية الأردن، وعندها يتحتم على كل الأردنيين وبكل أطيافهم أن يقلقوا على وطنهم الغالي وأن تكون لهم الكلمة الفصل في الدفاع عن هذا الثرى بأسنانهم وبنادقهم وصدروهم وإيمانهم المطلق بقدسية هذه الأكناف المقدسة.

إنني عندما أكتب في ذكرى الاستقلال محذراً من الوجع الذي يلوح في الافق فإنني أشدُّ الانتباه لتحركات هذا العدو اللئيم، الذي يتربص بنا الدوائر، وأهمس في أذن كل الأردنيين الشرفاء بأن الانحياز للوطن هو واجبٌ أخلاقي وديني وقيمي ولا يُستثنى منه أحد، ولا مجال فيه للتخلف أو التقهقر، وأن علينا أن نُشْعِلَ دفء الإحساس وجذوة الحماس في النفوس العربية الأردنية الأصيلة التي تركتها أمتها وحيدةً واستسلمت لرياح اليأس التي عصفت بها وأفقدتها القدرة على التمييز ما بين الغث والسمين، وأنه لا بد وأن نغرس في أبناء هذا الوطن الكريم الخير والشجاعة في قول الحق؛ وأن لا نترك المنافقين ولا الفاسدين ولا مروجي الخراب مكاناً في ساحات الوطن حتى لا يبثوا سمومهم، ولا يغرسوا سهامهم في صدره الدافيء الحنون، وحتى لا يضيِّقوا بعُقَدِهم كل اتساعاته ومساحاته التي طالما وسعت الجميع بلا حدود.

كل عام وكل الأردنيين بأطيافهم بكل خير … كل عام وأنت بخير يا وطني