0020
0020
previous arrow
next arrow

درس يمشي على الأرض …!! (4)

انتهينا في الجزء السابق من رحلة أ.ق مع العمل الجراحي وبدايته مع العلاج الكيماوي، وقد أشار في حديثه بالشكر الذي لا يعرف كيفية التعبير عنه لأحد الأشخاص الذين لا يمكن أن ينسى موقفهم معه في تلك التجربة، وهو مديره في العمل الذي بقي متمسكاً به لآخر لحظة، حيث كان العمل هو هاجسه الأول كمصدر رزقه الوحيد، ولذلك عاد للرياض مباشرة محاولا ايجاد أي مخرج لإجراء العلاج الكيماوي في السعودية حتى اقتنع بأنه لا مناص من اجرائه في الأردن، وعاد للأردن في منتصف رمضان لبدء العلاج الكيماوي، وتم اقرار 4 جلسات على مدى 3 شهور ونصف واتفق مع الطبيب على تسريع الأمر،

فكانت أول جلسة مباشرة بعد عيد الفطر واصفاً إياها بواحدة من أصعب التجارب في حياته، حيث أنه بدأ بالعلاج الكيماوي وجرح العملية الأخيرة لم يلتئم بشكل كامل بعد، ولكنه تابع برغم كل ذلك فبدأت معاناته مع الكيماوي بتساقط الشعر وانحطاط الجسم، والغثيان والعصبية الشديدة، وكانت المشكلة الكبرى في امتصاص الطعام نظراً لطبيعة العملية وصعوبتها، لتقل مناعة الجسم ويصاب بعد الجلسة الرابعة بألم في صدره ويتم اكتشاف التهاب في الرئة، فيعود للمستشفى لمدة اسبوعين حيث كان ذلك بسبب العلاج الكيماوي الذي يعرف بأنه علاجاً وقائياً فقط. قرر المستشفى اعطاءه جلسة اضافية للكيماوي كإجراء احتياطي، وخرج بعدها للمنزل ليقرر العودة للسعودية مباشرة برغم كل ظروفه بداية تشرين الأول 2012م، ليعود بعدها لمحاولة التعافي وزيادة الوزن والعودة لحياته كما كانت قبل الابتلاء. ونتيجة للعمليات الثلاثة أصابه هذه المرة إفتاء في البطن، فاضطر لإجراء عملية إفتاء في الرياض، وبرغم صعوبة الأمر بشكل كبير إلا أنه أصر على ممارسة حياته بشكل طبيعي، فسافر للأردن في إجازته السنوية في شهر حزيران 2013م، ليقضي الإجازة التي جاءت بعد رحلة شقاء ومعاناة كمن أحياه الله من جديد، فقضى شهراً كان بوصفه أجمل شهر قضاه في حياته في ربوع بلاده بدون حصول أي مضاعفات طبية خلاله.

واليوم وبحسب آخر صورة أجراها أ.ق في إجازة عيد الأضحى الفائت كانت المفاجئة باكتشاف عقداً لمفاوية تبين من تقرير الصورة النووية أنها عقد لمفاوية سرطانية !! ليجري بعدها عملية استئصال لواحدة من هذه العقد في الرقبة في فترة العيد، بينما يستحيل استئصال ما يوجد في بطنه جراحيا، ليقرر الأطباء ضرورة العودة للعلاج الكيماوي من جديد وبدون أي تأخير. (وهيني نازل) كانت آخر الكلمات التي أنهى بها زميلنا حديثه عن تجربته، في اللقاء الذي جمعنا به قبل سفره للأردن لمواصلة العلاج، ثم توجه بالكلام بعدها عن الأشخاص المؤثرين في تلك الفترة في حياته، فعاد للتأكيد على موقف زوجته التي كان كل من حولها يستغرب صمودها وصبرها وقوتها خلال تلك المحنة بحسب وصفه، وموقف والدته العظيم أيضاً والتي لم تكن دعواتها تفارقه أبداً، وكانت تمنحه القوة والعزيمةً كلما سمع منها الجملة التي يعشق سماعها منها دائماً “الله يرضى عليك يا ابني”.

وكذلك زوج شقيقته الصغرى الذي عاد ووصفه بأنه من النوادر في هذا الزمان، ويذكر هنا انه اتصل به يوما بعد العلاج الكيماوي طالبا منه ان يحضر شنطة صغيرة للسفر، فاستغرب منه لكنه فاجئه بالحضور وأخذه للعقبة لقضاء ليلتين وصفها بأنها كانت من أجمل ما يكون، هذا عدا عن دعمه ودعائه الذي لم ينقطع له. ثم مديره في العمل ودعمه اللامحدود له أثناء فترة العلاج، والمستمر حتى هذه اللحظة كما ذكر في حديثه. أحداث كثيرة ومتسارعة جرت كلها في عام واحد فقط كشف كما يقول أ.ق كل من حوله على حقيقتهم، فعرف من يحبه حقيقة ومن لا يحبه، ويقول بأنه لم يعد كالسابق فأصبح يعطي لنفسه اهتماماً أكثر من السابق حيث كان يعطي جل اهتمامه للآخرين على حساب نفسه، وعندما سألناه هل أنت خائف من القادم أجاب بأنه لم يعد يعرف الخوف في حياته، بل ثقته وأمله بالله عزوجل لا ينقطع ومتفائل بالأجمل دائماً. وفي اجابة على سؤال اخر قال انه لم يكن يتصور ابداً في حياته ان يواجه ما واجهه بهذه القوة والصمود، خصوصاً أنه قبل ذلك كان يعاني الأمرين من أبسط مرض يصيبه حتى ولو كان زكام بسيط.

وبإجابة على سؤال لنا عن الشخص الذي تفاجئ بوقفته معه خلال محنته، عاد وذكر زوجته التي بحسبه لو كانت إنسانة أخرى غيرها لربما انهارت من البداية، بينما احتفظ لنفسه بكثيرين تفاجئ بحقيقتهم. وفي نصيحة قدمها لكل من يبتليه الله بهذا البلاء أن يتحلى بالصبر والقوة بمعنى الكلمة وليس بالكلام فقط، لأن العوامل النفسية والصبر والقوة كلها عوامل هامة جداً في علاج السرطان، كما لا بد من الثقة بالله والتفاؤل دائماً. ويقول بأنه كان قبل مرضه وخلال مرضه مداوماً على الصدقة وزاد منها خلال علاجه، وأنه رأى بعينيه كم كان أثرها عظيماً في حياته خصوصاً في تجربته الأخيرة، الأمر الذي أعاد إلى ذاكرتنا ونحن نستمع إليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حسنه الألباني:

“داووا مرضاكم بالصدقة”. ثم توجه زميلنا بعد ذلك بنصيحة من قلبه لكل انسان: “لا تكبت همومك في داخلك وفضفض بقدر استطاعتك، فقد دفعت ثمناً غالياً من صحتي بسبب هذه الأمور كما يقول، حيث كانت من أهم أسباب السرطان الذي أصابني والذي يعتبر من أندر الأنواع في العالم ولا يصيب إلا من هم فوق 60 عاماً …!” ويقول أ.ق بأنه مؤمناً تماماً بقوله تعالى في الآية 80 من سورة الشعراء: (وإذا مرضت فهو يشفين)، منهياً حديثه بالتأكيد على أن من أهم العوامل التي ساعدته في محنته أيضاً هو ما تعلمه من والده رحمه الله من الإخلاص والصدق في العمل وكافة شؤون الحياة، وما تعلمه من والدته بارك الله في صحتها من طيبة قلب لا يجد لها مثيل في هذه الدنيا، ولنودع زميلنا الذي غادرنا بعد نهاية الحديث لمواصلة رحلته مع العلاج سائلين المولى عزوجل له تمام الشفاء والصحة والعافية.

سطور نعتقد بأنها حملت الكثير بين طياتها، ولا نقول إلا أنها زادتنا قناعة على قناعتنا بأنه كم من حي يسير بقدميه بيننا وهو بداخله إنسان ميت، وكم من إنسان ميت أو تهيأ لمن حوله أنه قد مات وهو حي أكثر منهم جميعاً، لكن بطل قصتنا لم يكن لا هذا ولا ذاك، بل هو إنسان ليس حياً فقط، وإنما هو درس حي لكل حي يمشي بقدميه على هذه الأرض، درس في الصبر والصمود والتحدي والتوكل على الله عزوجل. فلله درك يا زميلنا أنت وعائلتك، وعوض الله صبركم كل خير، ولا حرمكم ابتسامتكم التي كانت تزين وجوهكم في أحلك الظروف وجمعكم مع أحبابكم في جنان الدنيا والآخرة.

ويبقي قبل الختام أن نشير لمفاجئتين اكتشفناها في الساعات القليلة التي قضيناها خلال حديثنا مع زميلنا. الأولى أن زميلنا الذي لم نراه في حياتنا قبل عام 2012م اكتشفنا انه يسكن قريباً من عائلة زوج أكبر شقيقاتنا في مدينة اربد، بل ويعرف أعضاء العائلة معرفة جيدة جداً ..! أما الثانية فهي أن الطبيب الذي واكبه في أخطر مراحل علاجه الطبيب محمود أبو خلف في مستشفى الجامعة الأردنية، كان هو ذات الطبيب الذي أجرى أول عملية توسيع لقنوات الكبد لوالدتنا رحمها الله قبل أكثر من عشرة أعوام، فسبحان الله ما أصغر هذه الدنيا وما أذكى من يكون قلبه أوسع منها دائماً …!